فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ}.
فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: وما على الذين يتقون الله في أوامره ونواهيه من حساب الكفار فيما فعلوه من الاستهزاء والتكذيب مآثم يؤاخذون بها، ولكن عليهم أن يذكروهم بالله وآياته لعلهم يتقون ما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب، قاله الكلبي.
والثاني: وما على الذين يتقون الله من الحساب يوم القيامة ما على الكفار في الحساب من التشديد والتغليظ لأن محاسبة المتقين ذكرى وتخفيف، ومحاسبة الكفار تشديد وتغليظ لعلهم يتقون إذا علموا ذلك.
والثالث: وما على الذين يتقون الله فيما فعلوه من رد وصد حساب، ولكن اعدلوا إلى الذكرى لهم بالقول قبل الفعل، لعلهم يتقون إذا علموا.
ويحتمل هذا التأويل وجهين:
أحدهما: يتقون الاستهزاء والتكذيب.
والثاني: يتقون الوعيد والتهديد. اهـ.

.قال القرطبي:

قال ابن عباس: لما نزل لا تقعدوا مع المشركين وهو المراد بقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قال المسلمون: لا يمكننا دخول المسجد والطّواف؛ فنزلت هذه الآية.
{وَلَكِنْ ذِكْرَى} أي فإن قعدوا يعني المؤمنين فليذكّروهم.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} اللَّهَ في ترك ما هم فيه.
ثم قيل: نسخ هذا بقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140].
وإنما كانت الرُّخْصَة قبل الفتح وكان الوقت وقت تَقِيّة.
وأشار بقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} إلى قوله: {وذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}.
قال القُشَيْرِيّ: والأظهر أن الآية ليست منسوخة.
والمعنى: ما عليكم شيء من حساب المشركين، فعليكم بتذكيرهم وزجرهم فإن أبوْا فحسابهم على الله.
و{ذِكْرَى} في موضع نصب على المصدر، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي ولكن الذي يفعلونه ذكرى، أي ولكن عليهم ذكرى.
وقال الكسِائِيّ: المعنى ولكن هذه ذكرى. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} {الذين يتقون} هم المؤمنون والضمير في {حسابهم} عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات.
وروي أن المؤمنين قالوا: لما نزلت {فلا تقعدوا معهم} لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم فنزلت {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} فأبيح لهم قدر ما يحتاج إليه من التصرف بينهم في العبادة ونحوها، والظاهر أن حكم الرسول موافق لحكم غيره لاندراجه في قوله: {وما على الذين يتقون} أمر هو صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم حتى إن عرض نسيان وذكر فلا تقعد معهم.
وقيل: للمتقين وهو رأسهم أي ما عليكم من حسابهم من شيء.
{ولكن ذكرى} أي ولكن عليكم أن تذكروهم ذكرى إذا سمعتموهم يخوضون بأن تقوموا عنهم وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم.
{لعلهم يتقون} أي لعلهم يجتنبون الخوض في الآيات حياء منكم ورغبة في مجالستكم قاله مقاتل، أو {لعلهم يتقون} الوعيد بتذكيركم إياهم.
وقيل: المعنى لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى لا تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئًا من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم لعلكم تتقون أي تثبتون على تقواكم وتزدادونها، فالضمير في {لعلهم} عائد على {الذين يتقون} ومن قال الخطاب في {وإذا رأيت} خاص بالرسول قال: {الذين يتقون} للمؤمنين دونه ومعناها الإباحة لهم دونه كأنه قال: يا محمد لا تقعد معهم وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم {لعلهم يتقون} الله في ترك ما هم عليه.
وقال هذا القائل: هذه الإباحة التي اقتضتها هذه الآية نسختها آية النساء وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن تذكرونهم، ومن قال الإباحة كانت بسبب العبادات قال نسخ ذلك آية النساء أو ذكروهم وفي موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرى وقدّره بعضهم ولكن هو ذكري أي الواجب ذكري.
وقيل: هذا ذكرى أي النهي ذكرى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ}.
قال أبو جعفر عليه الرحمة: لما نزلت {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} [الأنعام: 68] إلخ قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت، أي وما يلزم الذين يتقون قبائح أعمال الخائضين وأحوالهم.
{مِنْ حِسَابِهِم} أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر {مِن شيء} أي شيء ما على أن (من) زائدة للاستغراق و{شيء} في محل الرفع مبتدأ و(ما) تميمية أو اسم لها وهي حجازية و{مِنْ حِسَابِهِم} كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالًا.
وليست {مِنْ} بمعنى الأجل خلافًا لمن تكلفه.
و{عَلَى الذين يَتَّقُونَ} متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبرًا للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقًا أو منصوب وقع خبرًا لما على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفًا أو حرف جر.
{ولكن ذكرى} استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير، ومحل {ذِكْرِى} عند كثير من المحققين إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرًا أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى، وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضًا لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة، وفي الثاني هذه ذكرى، وإلى ذلك يشير كلام البلخي، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل {مِن شيء} لأن من حسابهم يأباه إذ يصير المعنى: ولكن ذكرى من حسابهم وهو كما ترى.
واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف، والعلامة الثاني يقول: إنه إذا عطف مفرد على مفرد لاسيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف ألبتة بحكم الاستعمال تقول: ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكبًا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم ألبتة ولم يجيء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا: والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزأ من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] على ما في شرح المفتاح، وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك: جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش.
وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين مما يقتضيه الذوق، ومنهم من عمها كما قال الحلبي: إن أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت: ضربت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيدًا بيوم الجمعة.
وإذا قلت: وعمرًا يوم السبت لم يشاركه في قيده والآية من القبيل الأول فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع وبحث فيه السفاقسي وغيره فتدبر.
ومن منع العطف على محل {مِن شيء} لما تقدم منع العطف على {شيء} لذلك أيضًا ولأن (من) لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في غير الظروف أو مطلقًا عند الجمهور.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم.
وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك.
وهذه الآية كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا} [النساء: 140] إلخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه: {وَمَا عَلَى الذين} إلخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شيء} أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء.
وقيل المعنى: ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء، وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب.
قيل: وهذا الترخيص كان في أوّل الإسلام، وكان الوقت وقت تقية، ثم نزل قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} [النساء: 140] فنسخ ذلك، قوله: {ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ} {ذكرى} في موضع نصب على المصدر، أو رفع على أنها مبتدأ، وخبرها محذوف، أي ولكن عليهم ذكرى.
وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى، والمعنى على الاستدراك من النفي السابق: أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز.
أما على التفسير الأوّل: فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما على التفسير الثاني: فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم.
وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جدًّا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.
لمَّا كان الإعراض عن مجالس الذين يخوضون بالطعن في الآيات قد لا يحول دون بلوغ أقوالهم في ذلك إلى أسماع المؤمنين من غير قصد أتْبع الله النهي السابق بالعفو عمَّا تتلقَّفه أسماع المؤمنين من ذلك عَفْوًا، فتكون الآية عذرًا لما يطرق أسماعَ المؤمنين من غير قعودهم مع الطاعنين.
والمراد بـ {الَّذين يتَّقون} المؤمنون، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أوّل المتَّقين، فالموصول كتعريف الجنس فيكون شاملًا لجميع المسلمين كما كان قوله: {فأعرض عنهم} [الأنعام: 68] حكمه شاملًا لبقية المسلمين بحكم التبع.
وقال جمع من المفسّرين: كانت آية: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} [الأنعام: 68] خاصّة بالنبي صلى الله عليه وسلم وجاء قوله تعالى: {وما على الذين يتَّقون من حسابهم من شيء} رخصة لغير النبي من المسلمين في الحضور في تلك المجالس لأنّ المشركين كان يغضبهم قيام النبي من مجالسهم.
ونسب هذا إلى ابن عبَّاس، والسديّ، وابن جبير، فيكون عموم الموصول في قوله: {الذين يتَّقون} مخصوصًا بما اقتضته الآية التي قبلها.